حلب- بين صدمة الحرب، صور التعذيب، وأمل السلام

المؤلف: كمال أوزتورك09.30.2025
حلب- بين صدمة الحرب، صور التعذيب، وأمل السلام

لقد كانت حقًا من أقسى التجارب التي واجهتني خلال مسيرتي المهنية في الصحافة هي تلك الفترة العصيبة التي عشتها أثناء الحرب الأهلية السورية. المشاهد المروعة التي رأيتها هناك تركت جرحًا غائرًا في أعماق قلبي لسنوات مديدة، ولا يزال هذا الألم يظهر بين الحين والآخر ليزعزعني بعنف. ومع سيطرة قوى المعارضة على مدينة حلب وخروجها من تحت سلطة نظام الأسد في هذه الأيام، يبدو أن تلك الذكريات المؤلمة عادت لتطاردني بكل قسوة من جديد.

أوَّل لقاء مع الأسد

كانت أول زيارة لي إلى مدينة حلب برفقة رئيس الوزراء آنذاك، معالي السيد رجب طيب أردوغان، حيث كنت أعمل كمستشار إعلامي ضمن الوفد المرافق له. وكان ذلك بمثابة أول لقاء مباشر لي مع الرئيس بشار الأسد. ظهر الأسد في ذلك الوقت بصحبة زوجته، واستقبل الوفد بكل حفاوة وترحيب بأسلوب غربي أنيق ونبرة صوت ودودة ولطيفة.

عندما قمت بجولة استكشافية في أسواق حلب العتيقة، وفي رحاب الجامع الأموي الشامخ، وقلعة حلب التاريخية، شعرت بأن المدينة ليست بعيدة الشبه عن مدينة غازي عنتاب التركية. فقد عاشت هاتان المدينتان العريقتان ما يقارب أربعمائة عام تحت راية دولة واحدة، وتجمعهما روابط ثقافية وتاريخية متينة.
حلب، تلك المدينة التي لا تبعد سوى 45 دقيقة بالسيارة عن غازي عنتاب، تُعتبر بحق منبعًا أصيلًا لثقافتنا الغذائية الغنية ومطبخنا التقليدي الأصيل.

لكن، ويا للأسف، تبدلت الأحوال، وتغيرت مجرى العلاقات، وتحولت تلك الصداقة الوثيقة إلى عداوة. ذلك الأسد الذي كان يتمتع بالود واللطف أصبح فيما بعد عدوًا لدودًا لتركيا.
وبعد مرور سنوات عديدة، عندما عدت إلى سوريا بصفتي صحفيًا خلال فترة الحرب الأهلية المشتعلة، وجدت نفسي أمام مشاهد وأحداث مأساوية وتجارب قاسية لا يمكن محوها من الذاكرة أبدًا.

المعارك داخل الجامع الأموي

في عام 2013، وطأت قدماي أرض سوريا مرة أخرى كصحفي. ولكن هذه المرة، وجدت نفسي في بلد مزقته نيران الحرب الأهلية، وحولته إلى كومة من الأطلال والخراب، وأغرقته في بحر من الفوضى العارمة. كان الطريق المؤدي إلى حلب محفوفًا بنقاط التفتيش المتعددة، وكل نقطة منها كانت تخضع لسيطرة فصيل مسلح مختلف عن الآخر. لم تكن هناك سلطة مركزية موحدة، وكان المرور عبر كل نقطة تفتيش يعني الخضوع التام لقوانين وأوامر ذلك الفصيل المسيطر. كانت غالبية تلك النقاط تخضع لسيطرة فصائل معارضة لنظام الحكم، ولكنها لم تكن على وفاق ووئام فيما بينها.

لقد رأيت بأم عيني فتيانًا لم تتجاوز أعمارهم بالكاد 19 أو 20 عامًا، يحملون بنادق الكلاشينكوف ويتصرفون بغطرسة وكأنهم هم أصحاب السيادة المطلقة على المناطق "المحررة". ولم يمض وقت طويل حتى أجبرتنا أصوات الرصاص المتطاير على التوقف. فقد اندلع اشتباك مسلح عنيف عند إحدى نقاط التفتيش بين فصيلين معارضين متناحرين.

وبعد انتهاء الاشتباك الدموي، واصلنا طريقنا بصعوبة نحو مدينة حلب التي كانت تشهد معارك ضارية بين قوات النظام والمعارضين المسلحين.
لم تكن حلب في ذلك الوقت هي نفسها المدينة التي رأيتها في الماضي، فقد تحولت إلى مدينة أشباح خالية من الحياة. أسواق حلب التاريخية العريقة التي اشتهرت على مستوى العالم كانت قد دُمرت بشكل شبه كامل. كانت الأسقف مليئة بالثقوب التي أحدثتها رصاصات الطلقات الطائشة، والجدران تعج بآثار القصف العنيف والانفجارات المدمرة.

لكن أكثر ما أثّر في نفسي وأدمى قلبي هو المشهد المأساوي في نهاية السوق، داخل الجامع الأموي الكبير. كانت مئذنته الشامخة الشهيرة قد انهارت بشكل كامل، وسقطت بشكل أفقي في ساحة المسجد. كما أصابت قذيفة مدفعية القبة الرئيسية، تاركة ثقبًا هائلًا في أعلاها. بدا المسجد وكأنه قد انقسم إلى شطرين.

في الجهة المقابلة للقبلة، كان مقاتلو المعارضة قد أقاموا متاريسهم الدفاعية، بينما تمركز جنود النظام عند البوابة الرئيسية للمسجد.
نعم، لم أخطئ في الوصف، كانوا يقتتلون ويتحاربون فيما بينهم داخل المسجد. كانت المتاريس الدفاعية تتكون من منصات المصاحف الشريفة، والكتب الدينية، والسجاد الفاخر، وحتى الحجارة التي سقطت من القبة. والأمر الصادم والمفجع أكثر هو أن كلا الطرفين كان يصرخ بأعلى صوته "الله أكبر" أثناء إطلاق النار المتبادل.

لقد كان هذا المشهد المروع في الجامع الأموي بحلب واحدًا من أكثر المشاهد التي رأيتها للحروب الطائفية عبر التاريخ إيلامًا وحزنًا.

استلام الصور المروعة في الدوحة

قضيت عدة أيام في مدينة حلب محاصرًا بين المساجد التي دُمرت جراء القصف العشوائي، والرصاص المتطاير الذي كان يطلقه القناصة فوق رؤوسنا، وسط شوارع المدينة التي تحولت إلى ساحات قتال ومعارك دامية. وبعد عودتي إلى تركيا، تلقيت اتصالًا هاتفيًا غير متوقع. كان ضابط رفيع المستوى من الجيش السوري قد تمكن بأعجوبة من الهروب من البلاد، حاملًا معه صورًا مروعة التقطها لآلاف الأشخاص الذين قُتلوا تحت التعذيب الوحشي في سجون نظام الأسد. كانت تلك الصور بمثابة توثيق صادم ومفجع لجرائم ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عنها.

كان الهدف الأساسي من وراء تسريب هذه الصور هو أن تُستخدم كدليل قاطع أمام المحكمة الجنائية الدولية، لإثبات التهم الموجهة ضد الرئيس الأسد بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.

سافرت على الفور إلى مدينة الدوحة، حيث التقيت بفريق متخصص يضم خبراء قانونيين، وأطباء شرعيين، وتقنيين متخصصين في تحليل الصور. كما حضر الاجتماع ممثلو وسائل إعلام دولية مرموقة مثل "CNN International"، وصحيفة "الغارديان" البريطانية، بالإضافة إلى وكالة الأناضول للأنباء وقناة "TRT" التركية. وبصفتي مديرًا عامًا لوكالة الأناضول في ذلك الوقت، كان من المقرر أن أتولى مهمة استلام هذه الصور رسميًا قبل نشرها وتوزيعها على نطاق عالمي واسع. عندما رأيت تلك الصور البشعة لأول مرة، أصابتني صدمة عنيفة ورعب شديد. كانت الصور تعرض جثثًا لأشخاص أبرياء قتلوا بطرق وحشية لا يمكن تصورها: إما جوعًا حتى الموت، أو خنقًا بأسلاك البناء الغليظة، أو تحت وطأة التعذيب الشديد.

كانت الأجساد تحمل أرقامًا مكتوبة بالحبر على جباهها وصدورها. وكانت هذه الأرقام تُستخدم لتوثيق القتلى، وإرسال تقارير مفصلة إلى كبار المسؤولين في النظام. وكان الضحايا في معظمهم من المعتقلين السياسيين الذين اعتبرهم النظام معارضين له.

عندما قمنا بنشر تلك الصور المروعة، أثارت ضجة عالمية مدوية واهتزت لها أركان العالم بأسره، حتى إننا قمنا بتنظيم معرض خاص لها داخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك. ومع ذلك، ورغم الجهود القانونية الدولية الحثيثة، لم يتم تقديم الرئيس الأسد للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولكنني شخصيًا دفعت ثمنًا غاليًا لتلك الصور من الناحية النفسية. فبعد نشرها، لم أستطع النوم لمدة عشر ليالٍ متواصلة ولم أتناول أي طعام.

سوريا.. ساحة الامتحان المؤلمة

سوريا ليست مجرد أرض شهدت أفظع وأبشع مشاهد الحرب الأهلية، بل هي أيضًا مسرحٌ لمجازر وحشية تقشعر لها الأبدان، وميدانٌ لصراع طائفي مرير ترك بصماته العميقة على حياة ملايين البشر وعشرات الدول.

في الأراضي السورية، بلغ الصراع الدامي بين الشيعة والسنة ذروته، وامتدت تداعياته لتشعل نقاشات حادة وانقسامات عميقة في معظم الدول الإسلامية. لقد تجاوزت قسوة بشار الأسد ووحشيته كل الحدود والتوقعات، وأصبح طغيانه مثالًا صارخًا لا يُقارن بطغيان أي دكتاتور آخر في التاريخ.

ما زلت أتذكر جيدًا تلك اللحظات العصيبة التي شهدت فيها سقوط مدينة حلب، حيث رأيت بأم عيني مئات الآلاف من الأبرياء يُجبرون على ترك منازلهم وأراضيهم قسرًا. وفي ريف إدلب، شاهدت عن كثب المعاناة القاسية لأولئك الذين أُخرجوا من بيوتهم بالقوة، ليعيشوا في خيام متواضعة مصنوعة من القماش والأكياس البلاستيكية الرخيصة، غارقين في الوحل، ومحرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة.

وعلى الرغم من هذه المعاناة المريرة، لا يزال الكثير منهم يتمسكون بالأمل في العودة إلى ديارهم. فحلم العودة إلى حلب واسترجاع منازلهم وأراضيهم المسلوبة، لا يزال يعيش في أعماق قلوبهم، وينتظرون بفارغ الصبر أن تتحسن الأوضاع وتُتاح لهم الفرصة الذهبية لتحقيق هذا الحلم المنشود. عيونهم تذرف الدموع، لكن قلوبهم تفيض بالأمل والتفاؤل.

حان الوقت لحياة أفضل

في هذه الدوامة التي لا تنتهي من الصراعات والنزاعات، حيث أصبحت "الحرب الأبدية" بين المذاهب الإسلامية حقيقة واقعة مؤلمة، يلوح في الأفق الآن بصيص من الأمل لإنهاء هذا النزاع المقيت. يجب على المعارضة السورية، التي عانت الأمرين من التهجير القسري والتعذيب الوحشي والظلم المتفشي، ألا تقع في خطأ تكرار تلك الجرائم البشعة ضد مؤيدي النظام أو الشيعة أو النصيريين. فذلك النوع من الحروب العبثية لا يجلب نصرًا حقيقيًا ولا غلبة لأي طرف على الآخر. فليس هناك صراع أشد جهلًا وعبثية من الحرب المذهبية.

اليوم، تقف المعارضة السورية والدول الداعمة لها أمام فرصة ذهبية لا تعوض لبناء حياة جديدة ومزدهرة في حلب، دون تكرار مآسي الماضي الأليم. البوادر الأولية، سواء من خلال التصريحات الرسمية أو الخطوات العملية الأولية، تحمل إشارات إيجابية تبعث على التفاؤل. نسأل الله العلي القدير أن يتمكن الشعب السوري الشقيق هذه المرة من تحقيق السلام والاستقرار المنشودين، لعلنا نحن أيضًا نتمكن من تجاوز صدماتنا العميقة ونبدأ صفحة جديدة مشرقة في تاريخنا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة